ملاحظات أولى على مسيرة النهضة 27 فيفري بقلم عدنان منصر
ملاحظات أولى على مسيرة النهضة 27 فيفري
لا أفهم حقيقة سر انزعاج الكثيرين من المظاهرة، إلا بالنسبة للذين تعودوا قيس الأدوار بالأحجام. ولكن حتى من هذه الزاوية، فربما احتاج الأمر بعض التنسيب: المسيرة كانت بالغة التنظيم، ولكنها لم تكن أكبر مسيرات النهضةحجما في السنوات الأخيرة. هناك نوع من تراجع النّفَس رغم أن منظميها أرادوا التعبير بها عن الغَلَبة. في السياق الراهن، كانت هذه المسيرة حاجة ملحة للحركة سياسيا وتنظيميا، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.
تنظيميا: ستخفت الأصوات المطالبة بالإصلاح تحت هرسلة البروبقندا الداخلية للجهاز وكذلك تحت تأثير سياق التعبئة العامة الذي يقتضيه الصراع الحالي. سيؤخر ذلك انعقاد المؤتمر الموعود، وفي أقصى الحالات فإنه سيعقد بشروط الشق المهيمن على القرار السياسي والمالي بما يرسخ سطوة زعيم الحركة الحالي. سيتحول قبول الإصلاحيين بالدخول في تركيبة الهياكل التنظيمية إلى فخ حقيقي لهم.
سياسيا: بالرغم من أن المسيرة كانت في سياق المناكفة لرئيس الجمهورية، ونوعا من استعراض القوة بدعوى الدفاع عن الديمقراطية ضد الميول الإستبدادية، فلا يبدو أن ذلك سيغير شيئا من طبيعة العلاقة بين الطرفين. بالرغم أيضا من أن جزءا واسعا من القاعدة النهضوية اعتبر المسيرة موجهة ضد تصاعد قوة الدستوري الحر فإن ما سيحدث هو تدعيم التحشيد في ذلك الصف بالذات ضد النهضة ودفع المترددين، من “عائلة المنظومة القديمة” في أحضان عبير موسي. لن يتغير شيء إذا في العلاقة بالخصمين اللدودين.
سياسيا ثانيا: إذا كان هدف المسيرة دعم الحكومة، أي دعم المشيشي في مواجهته مع الرئيس، فإن العملية في مجملها مجرد مضيعة للوقت والجهد. وصلت حكومة المشيشي لخط النهاية منذ شهر، ولن يكون بقاؤها جزءا من أي اتفاق. هذا أمر منته بالنسبة لقيس سعيد، وحتى بالنسبة لمن يطرحون أنفسهم كوسطاء ومؤثرين في الأزمة الحكومية الراهنة. الدفاع عن حكومة المشيشي في مسيرة اليوم ليس في نظري، بغض النظر عن المناكفة مع الرئيس، إلا دليلا على أن النهضة لا تملك بين يديها أي هامش للتحرك. لقد سجنت نفسها داخل “قُلّةٍ” ضيقة لا خروج منها دون تحطيم القلة أو كسر المشيشي.
سياسيا ثالثا: بالرغم من الشعارات حول وجوب تركيز المحكمة الدستورية، فإن السياق الذي عادت فيه هذه الفكرة للظهور قد قضى على آخر حظوظها في أن ترى النور. بعد مسيرة اليوم، ستذهب الديناميكية في اتجاه آخر: سيزيد التوجس داخل البرلمان من مرشحي النهضة وحلفائها لهذه المحكمة، وسيُفهم أن الهدف من المحكمة الدستورية هو تهديد موقع الرئيس فقط، وسيصيب ذلك البرلمان بالشلل التام في هذا الموضوع.
كانت هناك حاجة ملحة، ولكن لاعتبارات نفسية ومعنوية وتعبوية وتنظيمية داخلية فقط، لهذه المسيرة. لكنها ستكون في نهاية الأمر عملية عاجزة عن تحريك الساحة بغض النظر عن كل الأماني التي نقرأها ونسمعها من أنصار الحركة ومناضليها، حتى أولئك الذين التزموا “بالسُبات السياسي” طيلة السنوات الأخيرة. ما سيحصل هو أن قيس سعيد سينظر إليه كعنصر موحد لكل الباقين، وسيزيد ذلك من شعبيته (ظهر هذا الإتجاه بوضوح منذ رفضه المصادقة على التحوير الوزاري منذ شهر)، كما سيمثل الأمر حافزا للدستوري الحر لمزيد التحشيد بما يرسخ استقطابا ثنائيا مضرا بالوضع كله، فيما بقي من هذه العهدة النيابية.
الأمر المثير للإنتباه هو أن مسيرة اليوم لم تجمع سوى أبناء حركة النهضة، وهذا وإن لبى حاجة روحية لديهم وأحيا فيهم فكرة الجماعة، فإنه دليل انكفاء وعجز عن التعبئة خارج دائرة المناضلين المنتظمين. كون حركة النهضة هي أكبر وأصلب الأحزاب أنصارا وتنظيما هو أمر لا خلاف حوله. السؤال هو: هل أن ذلك يكفي !