نظام التعليم الفنلندي : معجزة تتحدى المنطق
🔍 نظام التعليم الفنلندي: معجزة تتحدى المنطق
ماذا يعني أن تقلل أيام الفصل الدراسي، وتقلص ساعات التدريس في الأسبوع، وتوقف الاختبارات الموحدة، وتتخلص من الواجبات المنزلية والدروس الخصوصية، ثم تتصدر ترتيب طلبة العالم في اختبارات القياس الدولية؟
هذا ما حدث في عام 2000 حين فوجئ العالم بمجموعة طلاب قادمين من دولة صغيرة تعداد سكانها خمسة ملايين نسمة، يُتَوَّجون بالمراكز الأولى في اختبارات القياس الدولية، ومذ ذاك العام والسياحة التعليمية نشطة في فنلندا: طوابير من الوفود الدولية تصطف سنويًّا للزيارة، والإجابة عن سؤال واحد: ما الذي يجري في مدارسكم؟
«أول خطوة اتخذتها فنلندا للنهوض بالتعليم هي التخلص من الجراثيم». هكذا يسميها الدكتور سالبرغ اشتقاقًا من الأحرف الأولى لاسم الحركة العالمية لإصلاح التعليم «Global Education Reform Movement»، أو «GERM» (جرثومة) اختصارًا.
تكثيف المواد، كثرة الاختبارات والواجبات، إطالة أوقات الدوام، الدراسة المنزلية والدروس الخصوصية، كلها أساليب يؤكد سالبرغ أنها جراثيم قادرة على هدم أي نظام تعليمي يتكئ عليها، لأنها ممارسات غير تربوية من شأنها إرهاق الأستاذ والتلميذ معًا، وإضعاف عملية التعليم ككل.
يجب أن نُذَكِّر أنفسنا دائمًا بأهداف التعليم: أولها بناء اقتصاد جيد، وثانيها المحافظة على ثقافة البلد، وآخرها أن الأساليب الجرثومية لا تحقق ذلك.
مفارقات التعليم الفنلندي:
هذه بعض المفارقات التعليمية التي ربما لم يعتد عليها النوع البشري القاطن خارج نطاق الجغرافيا الفنلندية، علينا أن نصدق أن هناك شعبًا كاملًا يمارسها بشكل اعتيادي، واستطاع أن يتفوق بها على الشعوب الأخرى.
- تدريس أقل = تعلم أكثر
لم تثبت العلاقة بين زيادة أوقات الدراسة والتفوق، بل لوحظ أن الدول التي يتفوق طلابها كانت تقلل من ساعات دوامها المدرسي، في حين الدول التي أظهرت تدنيًا في مستويات طلبتها هي التي كانت تعتمد على زيادة ساعات الدراسة.
مفارقة «التدريس الأقل» تقضي على الخرافة السائدة عن أن الطالب يتقدم تعليميًّا بمضاعفة ساعات تدريسه في الصف، عند ساعات الاستراحة، في البيت، خلال العطلة، في الطريق، إلخ.
ومن تطبيقات هذا التقليل في فنلندا:
الطلاب الفنلنديون هم الأقل مكوثًا في المدرسة
البيوت الفنلندية تخلو من الدروس الخصوصية
المعلمون الفنلنديون يقضون ساعات تدريس أقل من البلدان الأخرى
الطالب الفنلندي هو الأقل قلقًا
المدرسة الفنلندية تفوقت عالميًّا خلال سنوات قليلة أيضًا
ساعات التعليم الصباحي كافية للطالب والمدرس، لا داعي للاستحواذ على ما تبقَّى من اليوم.
- تفاصيل تخصصية = معرفة معزولة
بعيدًا عن الحفظ والحشو والتلقين، يحذر سالبرغ من إلزام الطالب بمعلومات تفصيلية لا يتداولها إلا أهل التخصص الدقيق، يسميها «المعرفة المعزولة».
المواد التدريسية الفاعلة يجب أن تركز على تربية الطالب في الجوانب التالية:
التفكير الإبداعي
الضمير الأخلاقي
المهارات التواصلية
الموهبة الخاصة
لاحظ مرة أخرى، هذه موضوعات دراسية لا تتطلب استظهار مصطلحات جامدة هو في غنى عنها الآن، ولا تستلزم حفظ نصوص مطولة لم يحفظها كُتَّابها الأصليون أساسًا، ولم يطلبوا من قرائهم فعل ذلك.
إلزام النشء بهذه «المعارف المعزولة» سبب كاف لنفورهم من التخصص بها مستقبلًا، وقدرة الطالب على إبداع أفكار جديدة أهم من قدرته على تلقي معلومات جديدة، وتعليمه التفكير الابتكاري لا يقل عن أهمية تعلمه القراءة والكتابة والحساب.
لماذا شعر عالم الفيزياء «ميتشيو كاكو» بالإهانة عندما حفظت ابنته أجوبة الكتاب؟
- منطقة خالية من الاختبارات
دور المدرسة أكبر من أن تحكم على طالب من خلال ورقة، التعليم ليس للتقييم.
هكذا يطلق على المدارس في فنلندا: «منطقة خالية من الاختبارات».
السلطات في فنلندا غير مقتنعة بمردود سياسة الاختبارات، والتوصيف الوظيفي للمدرس الفنلندي محدد بمساعدة كل طالب لفهم المادة داخل الصف، دون ملاحقته بالامتحانات الطويلة والقصيرة والمفاجئة، أو مواسم الرعب النهائية.
إذا اطمأن الطالب في يومياته الدراسية، استطاع أن يفكر ويعبِّر ويتطور. أما التشديد والتهديد بالاختبارات، فإن له عواقب انسحابية خطيرة، ابتداءً بمشاعر التوتر والقلق، مرورًا بالضغوطات النفسية الحادة، وصولًا في حالات مؤسفة إلى المفاصلة بين التعليم أو الحياة.
دور المدرسة أكبر من أن تحكم على طالب من خلال ورقة، والتعليم أسمى من تلك الوصوم التي تُوزَّع على الصغار في بداية حياتهم، التعليم ليس للتقييم.
يُمنَع إعطاء الطلاب شهادات تحدد مستواهم بالدرجات والتقديرات في مراحل التعليم الأولى تجنبًا للتصنيفات والمقارنات المبكرة بين الأقران، (ممتاز، جيد، مقبول، راسب…) هذا ممنوع. وبعض وسائل الإعلام الفنلندية تجتهد في وضع ترتيب لمستويات المدارس بين يدي الجمهور، لكن الغريب أن هذه الأخبار لا تحظى باهتمام الشعب الفنلندي.
- أفضل تعليم بأقل تكلفة
مفارقة محرجة بعض الشيء: الدول التي صرفت الأموال، واتَّبَعت استراتيجية واضحة لتتصدر العالم تعليميًّا (أمريكا مثلًا) لم تنل هذا اللقب، بينما الدول التي لم تسعَ للأفضلية يومًا، ولم ترفع ميزانيتها التعليمية، وإنما اكتفت ببعض التحسينات التي توفر عليها التكاليف الباهظة، هي التي تبوأت القمة (فنلندا طبعًا).
من توحيد التعليم إلى تفريد التعليم
دائمًا ما يركز التعليم التقليدي على معيار واحد للنجاح فقط: اختبارات، واجبات، مشروعات، وكلها مسطرة قياس موحدة للجميع، الطلاب والطالبات ملزمون بتحقيق هذا المعيار الوحيد لضمان عملية الترقي للمراحل التالية، بافتراض أن جميع البشر يتمتعون بنفس القدرات وذات الإمكانات، وما دام هناك طالب واحد استطاع أن يحقق هذا المعيار، فجميعهم قادر على ذلك. هذا هو «توحيد التعليم».
أما مرحلة «تفريد التعليم»، فتقوم على مبدأ الإقرار أولًا بأن الطلاب متفاوتون في قدراتهم وإمكانياتهم خلال عملية التعلم.
ففي مرحلة التفريد يوجَّه المدرس إلى وضع خطة فردية تتناسب مع الاختلافات الطبيعية بين طالب وآخر. وتتسم هذه الخطط الفردية بالمرونة العالية بحيث يتمكن المدرس من متابعة أداء كل تلميذ على حدة، وبحسب نقاط قوته وضعفه يحدد الأستاذ مدى تطور مستواه التعليمي: لا يقارَن تلميذ بآخر، كل تلميذ له مسار تقييمي خاص يدركه أستاذه جيدًا.
لا غرابة إن عرفنا أن المدرس الفنلندي يستمر في تدريس نفس الصف بنفس الطلبة لأكثر من خمس مراحل متتالية، وربما يعرف تلاميذه أكثر مما يعرفهم آباؤهم.
كيف تلاشت نسب الرسوب في مدارس فنلندا؟
من حق كل طالب مهما يكن مستواه أن يتحصل على دعم شخصي من أستاذه داخل فصله، بهذا فقط تلاشت نسبة الرسوب في فنلندا.
هكذا يحدث الرسوب: شخص واحد يُملي دروسًا كثيفة على أدمغة كثيرة خلال ساعات قليلة. يضطر الطالب، المزدحم بسبع مواد وسبعة مدرسين وسبعة متطلبات، أن يلجأ إلى مساعدة من خارج الفصل (مدرس خاص، صديق أكبر، أم خارقة، رشوة، تسريب، غش، إلخ) كي يلحق بالمنهج، ومن لا يفعل سيستمر في كرسيه لعام إضافي.
المدرسة الفنلندية ترى رسوب الطالب نوعًا من الظلم الواقع عليه لأنه الوحيد الذي يتحمَّل فشل الإدارة والمناهج والمدرسين. الطالب يعيد السنة ويتأخر ويحبط ويُلام، بينما يظل المنهج مصانًا رغم عواره، والمدرس محميًا رغم التقصير.
رسوب الطالب فشل للأستاذ والمادة والمنهج وطاقم الإدارة جميعًا.
من حق كل طالب مهما كان مستواه أن يتحصل على دعم شخصي من أستاذه داخل فصله، بهذا فقط تلاشت نسبة الرسوب في فنلندا.
يقولون في فنلندا 《 نحن لانملك ذهبا ولانفطا ولكن لدينا تعليم .》
■ مقتطف من مقال ل. أحمد المشاري
↩ متى سنصل لهكذا تفكير وتغيير ؟!