في مثل هذا اليوم 26 جانفي من سنة : 1978 – إندلاع أحداث “الخميس الأسود” بتونس.
في مثل هذا اليوم 26 جانفي من سنة : 1978 – إندلاع أحداث “الخميس الأسود” بتونس.
– لم يكن 26 جانفي 1978 يوما عابِرًا في تاريخ تونس المعاصر، بل كان استئنافا جديدا لدورة “الكفاح الشتوي” في تونس منذ ثورة 18 جانفي 1952.
– هذا اليوم الذي يُطلق عليه البعض “الخميس الأسود” تَحوّل من إضراب عام أعلنته قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل إلى حالة شعبية رافضة لسياسات الحكم وخياراته، أمسَى في قراءات المؤرّخين حدثا يختزِل سياقات مرحلة بأكملها من التاريخ السياسي والاجتماعي للبلاد.
– رغم انقضاء 41 سنة على الأحداث، فإن الفصول الكاملة للأحداث مازالت مَجهولة. ولكن الذاكرة الشعبية والنقابية أفلتت من المعتقلات ومن مَخافر الشرطة لتروي -في شهادات وبيانات مُوثقة – عذابات عدد كبير من التونسيين أسقطتهم رصاصات الشرطة والجيش والمليشيات وتعرّضوا للاعتقال، وتم اقتيادهم إلى محكمة أمن الدولة، وبعضهم لقِي حتفه تحت التعذيب.
– وبالعودة إلى خلفيات “الخميس الأسود” تجدر الإشارة إلى أن الأوضاع الاجتماعية والسياسية تميزت في أواخر السبعينات بالتدهور الذي بلغ ذروته عند انفجار الأزمة بين الاتحاد العام التونسي للشغل وحكومة الهادي نويرة، وقد بدأت ملامح فك الارتباط بين منظمة الشغالين والحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم تتجلى بوضوح من خلال تصاعد وتيرة الإضرابات العمالية سنة 1977 من بينها المسيرة التي نظمها الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس يوم 9 سبتمبر وإضراب عمال شركة “سوجيتاكس” بقصر هلال يوم 10 أكتوبر وإضراب عمال وموظفي وزارة الفلاحة في 6 جانفي 1977.
– وقد تُوِّج هذا المسار باستقالة الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل الحبيب عاشور من اللجنة المركزية والديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري، وهو ما أذِن بانتهاء الارتباط العضوي بين الاتحاد والحزب الحاكم التي بدأت منذ مؤتمر صفاقس في 15 نوفمبر 1955 .
– وقد تصاعدت وتيرة الأزمة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة عند انعقاد الهيئة الإدارية للاتحاد بتاريخ 22 جانفي 1978، إذ انتقد بلاغ الهيئة سياسات الحكومة وتوصيات اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الدستوري مشيرا إلى أنها “تدل على تغلّب نزعة التصلب الهادفة إلى إعطاء صبغة قانونية لسياسة دكتاتورية قائمة على العنف والترهيب”. وقد انتهت الهيئة الإدارية بإعلان الإضراب العام بصفة إنذارية في كامل البلاد وأوكلت للمكتب التنفيذي أمر تحديد تاريخه ومدّته وتراتيبه، ليُعلِن هذا الأخير بعدها بيومين أن الخميس 26 جانفي 1978 سيكون تاريخ الإضراب العام.
– والجدير بالذكر أنّ التحويرات الأمنية التي أجراها النظام قبل الأحداث -والتي يصفها البعض بعَسكرة وزارة الداخلية- كانت تدل على أن المواجهة ستأخذ طابعا دمويا، حيث تمت إقالة وزير الداخلية الطاهر بلخوجة المعروف بميله للحوار وتعويضه بعبد الله فرحات وزير الدفاع المعروف بالتصلب، ثم جِيءَ بالضاوي حنابلية وزيرا للداخلية يوم 26 ديسمبر 1977، وقد استمر على رأس الوزارة أثناء الأحداث وبعدها.
– ولعل رجل النظام الجديد الذي لفت انتباه الجميع آنذاك هو الكولونيل زين العابدين بن علي، الذي تم استقدامه في تلك الفترة من المؤسسة العسكرية وعُيِّن مديرا للأمن الوطني عوضا عن عبد المجيد بوسلامة، وقد كان بن علي واحدا من المقربين لوزير الدفاع عبدالله فرحات الذي اقترح تعيينه في هذا المنصب لأنه يدرك جاهزيته لإدارة الأزمة باستخدام أقصى أشكال التدخل الأمني.
– أعلن النظام المواجهة الدموية عندما شرع في محاصرة مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل ليلة 26 جانفي 1978 بالاستعانة بوحدات من الأمن والجيش المنتشر في المدن ومجموعات تابعة للحزب الحاكم كان يطلق عليها النقابيون آنذاك “مليشيات الصّياح” نسبة لمحمد الصّياح مدير الحزب الاشتراكي الدستوري، وقد تواصل هذا الحصار إلى صبيحة 26 جانفي حيث شهدت دور الاتحاد مساندة عمالية وشعبية واسعة.
– تشير المعطيات آنذاك إلى أن المركزية النقابية أعطت التعليمات للنقابيين بملازمة بيوتهم حتى لا يتم توريطهم في أعمال الحرق والتخريب التي يعد لها الحزب الحاكم. ولكن يبدو أن المشاركة الشعبية فاقت كل التوقعات حيث شهدت شوارع العاصمة مسيرات شارك فيها العديد من النقابيين والعمال والطلبة، واتسعت رقعة الإضراب العام لتشمل كل جهات البلاد على غرار سوسة وصفاقس والقيروان وقابس وسليانة وتوزر والقصرين وزرمدين، الأمر الذي يشير إلى أن هذا الحراك تحوّل إلى حالة شعبية عامة رافضة للسياسات الحكومية وليس مجرد خلاف داخلي بين قادة الاتحاد مثلما روّجت إلى ذلك حكومة الهادي نويرة.
– ولعلّ هذه المشاركة الشعبية أربكت النظام وجَعلَته يمضي في خيار المواجهة الدموية بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين لِيسقُط بذلك المئات من الشهداء والآلاف من الجرحى. وفي هذا السياق تؤكد المصادر النقابية أن عدد الشهداء فاق الـ400، بينما اكتفت السلطة آنذاك بذكر رقم يشير إلى 52 قتيل و365 جريح أذاعته عبر الصحف ونشرات الأخبار المرئية والمسموعة.
– شن النظام بعد ذلك حملة إيقافات واسعة بدأت باعتقال معظم أعضاء المكتب التنفيذي باستثناء التيجاني عبيد الذي تبرّأ من مشاركته في الإضراب العام وقدّم استقالته من المكتب التنفيذي قبل اندلاع الأحداث، وقد قامت السلطة بتنصيبه بعد شهر أمينا عاما للاتحاد العام التونسي للشغل إثر اعتقال القيادة الشرعية، وذلك في مؤتمر شارك فيه الوزير الأول الهادي نويرة وعُرف بـ”المؤتمر 15 خارق للعادة”.
– وقد أكدت الشهادات التي أدلى بها النقابيون المعتقلون أنهم تعرضوا للتعذيب في أقبية وزارة الداخلية وقد لقي البعض حتفهم تحت التعذيب على غرار حسين الكوكي مؤسس للنقابة الجهوية للبنوك وشركات التأمين بسوسة، أو من جراء التعذيب على غرار سعيد قاقي الكاتب العام للجامعة العامة للسياحة.
– وتمت إحالة 30 من القيادات النقابية على محكمة أمن الدولة وهم أعضاء المكتب التنفيذي والكتاب العامين للاتحادات الجهوية والكتاب العامين للجامعات والنقابات العامة والأساسية وقد بلغت الحكام الصادرة ضد هؤلاء عشر سنوات أشغال شاقة، على غرار الأمين العام الحبيب عاشور وعضو المكتب التنفيذي عبد الرزاق غربال، في حين تمت مقاضاة المئات من النقابيين الآخرين أمام المحاكم العادية.
– وفي هذا السياق أشارت جريدة “لوموند” الفرنسية إلى أن هناك ثلاثة آلاف شخص تمت مقاضاتهم بتهمة المشاركة في أحداث 26 جانفي 1978.
– إن التفحّص في دفاتر 26 جانفي 1978 يقود إلى الاصطدام بالحملة الدعائية المسعورة التي شنّها النظام على النقابيين وقادة الاتحاد العام التونسي للشغل. فقد تصدّرت هذه الحملة صحف السلطة على غرار “العمل”، وعبّرت عنها النشرات التلفزيّة والإذاعية، فقد كان النقابيون يُتَّهمون بإثارة الهرج والتخريب والقتل والتآمر على أمن الدولة مع جهات خارجية واختراق الوحدة القومية الصمّاء، وقد بلغ الأمر حد اتهامهم بصنع الأسلحة وتجميعها في دور الاتحاد.
– وقد كانت هذه الحملة تهدف إلى تعبئة الرأي العام ضد النقابيين وعزلهم عن الحركة الشعبية من خلال إظهارهم بصورة المارقين عن القانون، وقد استُعملت هذه الدعاية لتلفيق التهم الجنائية للنقابيين الذين وقع اعتقالهم دون وجود مستندات إدانة.
– لقد مثلت أحداث 26 جانفي 1978، الضربة القاسية للعلاقة بين الاتحاد والحكومة والتي مهدت تبعاتها لأحداث جانفي 1984، أو ما يعرف بثورة الخبز.