غادرت العديد من شركات النفط العالمية تونس، في ما تستعد بعض الشركات الأخرى للرحيل، ليشهد قطاع النفط انتكاسة نتيجة تراكم عديد الصعوبات.
واستعرض المهندس الخبير في استكشاف المحروقات وإنتاجه والمستشار السابق لوزير الطاقة والمسؤول المكلف بملف المحروقات والعضو باللجنة التنفيذيّة تانس، حامد الماطري، في لقاء خصّ به وكالة تونس إفريقيا للأنباء، وضعيّة قطاع النفط في تونس والأسباب الكامنة وراء رحيل شركات النفط عن البلاد.
وكالة تونس إفريقيا للأنباء: تستعد العديد من شركات النفط العالميّة لمغادرة تونس بالرغم من دخول بعض الحقول النفطيّة حيز الإنتاج، بماذا تفسرون ذلك؟
حامد الماطري: للأسف ما توجهت به صحيح، ولا يعود الإشكال إلى الأمس، فقط، فقد شهدت السنوات الماضية مغادرة العديد من الشركات الكبرى والمتوسطة البلاد، ولتتخلى عن حصتها بتونس لفائدة شركات صغرى، وينضاف هذا التوجه، لسوء الحظ، مؤخرا، إلى جملة الصعوبات، التّي يواجهها القطاع ككل.
ولا أخفي سرّا فإن شركتي “اني” و”شال” الوحيدتين اللتين تعملان بتونس، وتبحثان عن مشترين لحصصهم، وقامت بدورها شركة “او ام في” ببرنامج للتخلي عن استثماراتها وبيع حصصها في المشاريع المشتركة، لتقتصر أنشطتها على حقل نوّارة ومحيطه، كما يبدو أن الشركات الصغيرة قد فقدت الصبر والأمل وتفكر في الرحيل هي الأخرى.
وكالة تونس إفريقيا للأنباء: ماهي الأسباب الدافعة نحو خيبة الأمل هذه، بحسب تقديركم؟
حامد الماطري : أعتقد أن ثلاثة أسباب رئيسيّة ولّدت خيبة الأمل لدى شركات النفط، أوّلها المشاكل المالية تبعا للانخفاض المتتالي في أسعار النفط خلال السنوات الأخيرة، مقابل ارتفاع كلفة التشغيل، نسبيّا، في تونس، ومن ناحية أخرى التأخيرات، التي باتت متكررة، في الدفوعات من قبل الطرف التونسي (كذلك الأمر بالنسبة للالتزامات مع الشركة التونسية للأنشطة البترولية والشركة التونسية للكهرباء والغاز).
ثانيا، توجد صعوبات في التعامل مع الهيئات الوطنية، وغياب رؤية إستراتيجية للقطاع تنضاف إلى المشاكل، التّي تفاقمت بسبب عدم الاستقرار السياسي وتولّي عشرة وزراء مهمّة الطّاقة منذ سنة 2011، علاوة على إنشاء مرتين لوزارة الطاقة وحلها وإعادة إنشائها.
ثالثًا، لقد أصبحت المشاكل الاجتماعية والأمنية علاوة على الإضرابات المتزايدة والمتكرّرة وتعمّد غلق الطرقات والاضطرابات الاجتماعية، تهدد سلامة التجهيزات البترولية والأنشطة وتسوية وضعيات الموظفين، مقابل عجز الدولة عن فرض النظام والقانون، وليكون اعتصام الكامور في الحقيقة مجرد حلقة واحدة من سلسلة طويلة من الأحداث المماثلة.
ومن الطبيعي في ظل ظروف مماثلة وللأسف، أن تخشى الشركات على مصالحها وتحبذ الاستثمار في مكان آخر.
باختصار، لقد جابه المستثمرون في قطاع النفاط جل أنواع العراقيل (مشاكل اجتماعية وسياسية و”إدارة الأراضي” و إضرابات ومعوقات ونزاعات تعاقدية وضغوط وتأثيرات سياسية) وهذه هي الوصفة المثالية لتحويل أي مشروع واعد إلى خسارة فادحة.
ومن الطبيعي أن لا يقدم أي شخص على الالتزام باستثمار إذا لم يكن متأكدا مما إذا كان سيتمكن من تحقيق الدخل المرجو تحقيقه.
وبصفتنا تونسيون مفعمون بالحس الوطني، نحاول دوما تعديل الوضع، عبر الترويج لصورة مغايرة تماما للوضع، الذي تمر به البلاد وأقل إثارة للقلق إزاءه، ولكن دعني أخبرك أن الوضع قد بات مستحيلا لدرجة أن أربع من الحملات الخمس الأخيرة للزلازل (الخطوة الأولى في عملية التنقيب عن النفط) تم إجهاضها (مع أجزاء جافة بملايين الدولارات لكل منها) بسبب القوة القاهرة (مرتبطة بالمشاكل الاجتماعية والعوائق والإضرابات والوصول إلى الأرض).
حتى الشركة التونسية للأنشطة البترولية قد اضطرت إلى التخلي عن استكمال المسح الزلزالي، المتعلّق برخصة منطقة “الشعّال”، لأسباب قاهرة، وان لم نعد قادرين على الاستكشاف فمن الطبيعي ألا يكون هناك المزيد من الاكتشافات أو الإنتاج.
(وات): هل هناك عمليّات استكشاف جديدة في قطاع المحروقات؟
حامد الماطري: يعكس دخول عدد من الحقول في تونس مؤخرا حيز الانتاج، والمتمثّلة في نوارة (غاز، الجنوب التونسي) وحلق المنزل (نفط، خليج الحمامات)، جليّا الهنّات التي تشوب القطاع، على الرغم من أنها مشجعة.
وطالت المزايدات السياسيّة والجدل القانوني امتياز حلق المنزل، في الفترة السابقة، ممّا ساهم في تأخير استغلال الامتياز بسنتين وتسبّب في تكبّد المستثمر خسائر فادحة. وشهد امتياز حقل نوّارة تعطل استغلاله بنحو 8 سنوات.
(وات): هل تظن أن رحيل المؤسّسات يؤكد بداية اندثار مجال التنقيب عن النفط في تونس؟ هل هو بسبب نضوب الموارد أو عجز الدولة على الاستمرار في أنشطة الاستكشاف؟
حامد الماطري: اعتبر البعض أن تنبيه الخبراء بـ”احتضار” القطاع مبالغ فيه. لكن تعدّ “بداية النهاية” تهديدا حقيقيا في الوقت الحالي. ولا يرتبط هذا الوضع بنضوب الموارد في البلاد، رغم أن الحقول البتروليّة تستنفذ مخزونها، بل يتعلق الاشكال بتجديد هذا المخزون.
تزخر تونس بالإمكانيات في الجنوب وخليج قابس والساحل الشمالي ولا تفتقر للموارد بل تحتاج الى البحث عنها واستكشافها مسبقا. أنا شخصيّا على يقين بأنّنا نمتلك الامكانيّات الكفيلة بتعديل عجز الميزان الطاقي وعكس المنحى السلبي في غضون السنوات المقبلة. لكن يتطلب ذلك استعادة نسق البحث وتوفير كافة الظروف الملائمة لحثّ المستثمرين على الاستكشاف، لكن للأسف تفصلنا اشواط عن ذلك.
(وات): لماذا عجزت، وفق رأيك، الحكومات المتعاقبة عن استعادة ثقة المؤسسات البترولية وضمان بقائها في تونس؟ هل ذلك راجع لأسباب قانونية باعتبار أن عقود الاستغلال المتعلّقة بالموارد الطبيعية (الفصل 13 من الدستور) أصبحت تحال الى اللجنة البرلمانية المختصّة وتعرض الاتفاقيّات في هذا الشأن للمصادقة عليها في مجلس النوّاب؟
حامد الماطري: في الحقيقة، يعاني القطاع من صعوبات تعود الى ما قبل الثورة، وتتجاوز الإطار الضيق للفصل 13 من الدستور الجديد. فالبيانات واضحة والتباطؤ المسجل على مستوى عمليّات الاستكشاف أو الإنتاج يعود إلى ما هو أبعد من ذلك.
ويشهد القطاع صعوبات حقيقية في الحوكمة. وتتمثل اساسا في توزيع المهام أو تشابك الأدوار بين الشركة التونسية للأنشطة البترولية والوزارة المعنية. فقد ألقت كل من محدودية الأحكام الواردة بمجلة المحروقات وغموض وتعقد الاجراءات وجمود الأطر الهيكلية والقانونية، بثقلها على جاذبية القطاع واستقطاب المستثمرين.
وبعد اندلاع الثورة في تونس، زاد الفصل 13 من الدستور الجديد والاحتجاجات الاجتماعية وجميع الحملات الموجّهة ضد القطاع في تأزم الأوضاع الصعبة.
وات: أي انعكاسات لهذا الانسحاب على القطاع وعلى صورة تونس؟
حامد الماطري: لدينا نزعة، أحيانا، في تناسي أن الاستثمارات الأجنبيّة في قطاع المحروقات تعدّ الأهم على مستوى الأرقام. ورغم ذلك فإن حقل نوّارة، مثلا، هو المشروع الوحيد، الذّي تمّ تنفيذه في تونس بقيمة استثماريّة تقدّر ب1 مليار دولار منذ سنة 2011.
حين تفقد الشركات المتعددة الجنسيّات المتمرّسة والمطلعة بشكل جيّد عمّا هو حولها والمدعومة من سفاراتها وفي استماع للمسؤولين الأول عن الحكومة، الثقة في البلد فإنّه يصعب إقناع الشركات الاصغر حجما على القدوم والاستثمار.
لقد تمّ تداول صور اعتصام الكامور في كلّ أصقاع الدنيا (من حسن الحظّ أنّه لم تحصل أي صدامات أو عنف) وأعطت صورة بلد غير قادر على المحافظة على حقوق المستثمرين وحتّى المحافظة على مصالحه الاستراتيجية.
وات: أيّ بديل للقطاع حسب رايكم؟ واي مستقبل للشركة التونسيّة للانشطة البتروليّة؟
حامد الماطري: المسؤولون بالشركة التونسيّة للأنشطة البتروليّة أو بالوزارة، يناضلون لأجل إنقاذ القطاع. ودون هذه الجهود كان يمكن للقطاع أن يصل الى نقطة اللاعودة منذ مدّة. هذا يعني ان هذه الجهود تبقى غير كافية إعتبارا إلى أنّ الأمر يتطلّب استراتيجيّة واضحة والتزاما فعليّا من قبل الهياكل الحكوميّة.
اني استمر في الاعتقاد أنّ الوضع يمكن أن يتحوّل خلال السنوات القادمة في حال إقرار اجراءات جيّدة واصلاح الهياكل وجعل الاطار التشريعي أكثر جاذبية بالنسبة للمستثمرين.
وات: في ما يتعلّق بشفافيّة القطاع؟ صحيح أن توليّ الوزير السابق لوزارة الطاقة، منجي مرزوق، تميّز باختيار الشفافية والانفتاح على وسائل الإعلام والعموم لكن لماذا حسب رايكم لم يتم اطلاق أي من الاصلاحات، التّي اقترحتها؟
حامد الماطري: صحيح أن تعيين منجي مرزوق على راس وزارة الطاقة أحي الكثير من الآمال. واعتقد أن الجهود المبذولة لتحقيق الانفتاح على العموم وعلى وسائل الاعلام لم تكن سوى مرحلة أولى ضمن مسار يقوم على ثلاثة محاور تتعلّق بالشفافيّة والحوكمة وحسن الاداء.
إنّ استعادة ثقة العموم واعتماد سياسة الشفافية سيسمح باطلاق الاصلاحات الهيكلية على غرار احداث وكالة للتعديل لضمان حوكمة أفضل للموارد الوطنيّة لكن، أيضا، إعادة صياغة مجلّة المحروقات ودعم تعصير الهياكل بالوزارة لتتمكن من تحمّل مهامها بشكل كامل والسماح للشركة التونسيّة للأنشطة البتروليّة بالتركيز على دورها كفاعل وطني ودعم الشركة لاضفاء المرونة على عملها وتحسين آدائها لتلتحق بمصاف الفاعلين الأجانب.
لدينا مخطط طموح يمتدّ على أربع سنوات لكن في الأخير لم يبق لدينا سوى أربعة أشهر.
وات: يتحدّث الكثير عن أنّه بإمكان تونس تحقيق الكثير اذا تمّ تسريع عمليّة التحوّل نحو اعتماد الطّاقات المتجدّدة بعد تراجع النشاط النفطي وعن تسريع هذا التراجع في الاداء نحو تحقيق التحوّل الطّاقي في البلاد. ما رأيكم؟
حامد الماطري: يوجد خلط حقيقي لدى الرأي العام على هذا المستوى. إن النشاط النفطي لم يكن أبدا في منافسة مع التحوّل الطّاقي نحو الطّاقات البديلة. ويعتبر التحوّل الطّاقي مسارا في حاجة الى الوقت والى الأموال، في الاثناء، يجب ضمان التزوّد الوطني من الطاقة والحرص على معالجة الميزان الطّاقي في هذا المستوى.
إذا كان لدى تونس الاكتفاء الذّاتي على مستوى الغاز الطبيعي وبالتالي من انتاج الكهرباء كان بامكان توجيه جزء من الاموال الموجّهة إلى تغطية العجز نحو متابعة وتطوير البنية التحتية على غرار الشبكة الوطنيّة للكهرباء ودعم النسيج الصناعي. سيتواصل استخدام المحروقات لعدّة سنوات قادمة. ويعمل العجز الطّاقي على تأجيل تحقيق التحوّل الطّاقي في البلاد.
تعدّ الموارد الطبيعيّة حظ استراتيجي، التّي يجب على بلادنا الاستفادة منه بطريقة مسؤولة وللمصلحة الوطنيّة.
(وات)