حرب الملفّات …كيف أمسك الشاهد بخيوط اللعبة السياسية ؟
طارق عمراني
من المعروف بأن السياسة حسب تعريفها الكلاسيكي هي “فن الممكن ” و قد تطور هذا المفهوم الى صياغة مفهوم الواقعية السياسية التي تقوم في جوهرها على المبدأ السياسي الأخلاقي القائل بأن “من يملك القوة يملك الحق ” حيث تعود هذه النظرية الى بدايات التاريخ السياسي في العهد اليوناني و صاغها الجنرال ثيوسيديس في كتاب “الحرب البلوبونيزية ” لتتوسع في كتاب الأمير لنيكولا ماكيافيل في القرون الوسطى ليتبعه آخرون لاحقا مثل توماس هوبز و سبينوزا و جون جاك روسو لتخضع في أواخر القرن التاسع لولادة جديدة في هيئة الداروينية الإجتماعية لتوصف السياسة بأنها صراع يكون فيه البقاء للكيانات السياسية الأصلح حيث تفترض الواقعية السياسية ان المصالح تحميها ممارسة السلطة فالمبدأ الذي يحكم السياسة هو قطعا “الغاية تبرر الوسيلة ” .
و إذا ما نظرنا الى الساحة السياسية التونسية فإنها و بفضل مخرجات الثورة قد شهدت ديناميكية سياسية بإندثار كيانات سياسية وولادة أخرى خلال فترة وجيزة مع الملاحظة بإستمرارية وحيدة تمثلت في حركة النهضة التي عاصرت تقريبا كل التحولات السياسية و تعاملت معها بمبدأ البراغماتية بالتحالف مع كل القوى الصاعدة، الثورية منها والممثلة في احزاب مابعد الثورة و تحديدا أحزاب المؤتمر و التكتل ثم تغيير دفة التحالفات نحو الحرس القديم مع التغيرات التي شهدتها الساحة السياسية الإقليمية و الداخلية بعد الإنقلاب العسكري في مصر و سقوط حكم الإخوان في المحروسة صيف 2013 ،فصعود حركة نداء تونس كان ولا شك تطورا من تطورات الثورة التونسية فلكل ثورة ثورة مضادة ،فالحزب الذي قام على مفهوم “الخيمة الكبيرة ” بتجميع الباجي قايد السبسي لشتى الحساسيات السياسية المناوئة للإسلاميين من دستوريين و نقابيين ويساريين و تجمعيين و شخصيات حقوقية مستقلة ،مثل ولا شك قوة وازنة مضادة لحركة النهضة بقوة الأمر الواقع لتفتح قنوات الحوار في إطار ما عرف بلقاء البريستول في باريس بين الشيخين لتطوى الصفحة الاولى من الثورة التونسية و ندخل في المرحلة الثانية التي إنطلقت بحوار وطني وحكومة تكنوقراط ثم إنتخابات 2014 التشريعية و من بعدها الرئاسية التي ترجمت المزاج الشعبي التونسي بفوز حركة نداء تونس بأغلبية غير مريحة إستوجبت التحالف مع القوة السياسية الثانية المتمثلة في حركة النهضة فمع قراءة نتائج الإنتخابات يمكن التسليم بأن الحركة الإسلامية لها عمق شعبي واسع خاصة في معاقلها التاريخية في الجنوب وتحديدا الشرقي مع تمثيليات متفاوتة في كامل البلاد .
2018 الإنفجار الكبير
عرفت تونس بعد إنتخابات 2014 هدوءا حذرا يمكن عنونته بالتوافق الذي ساهم بشكل او بآخر بتحقيق الإستقرار السياسي غير ان حركة نداء تونس قد شهدت موجة من الهزات بين أجنحتها في إطار حرب التموقع و تضارب المصالح لتشهد موجة من الإستقالات و الإنسلاخات مما تسبب في إضعافها وهو ماتترجم في نتائج الإنتخابات البلدية ماي 2018 و خسارة حزب البحيرة المدوية و ما ترتب عنه من إنهاء التوافق بين الشيخين و صعود أسهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي اعلن ودون مواربة عن حربه ضد المدير التنفيذي لحركة نداء تونس ونجل رئيس الجمهورية حافظ قايد السبسي فمع مطالبة ماتبقى من نداء تونس بإقالة الحكومة و رئيسها على خلفية الفشل الإقتصادي و الإجتماعي تمسكت حركة النهضة بالإستقرار الحكومي وهو ما تسبب في إنتهاء العمل بوثيقة قرطاج الثانية قبل بدايتها في شهر جوان الماضي .
الشاهد..السياسة الواقعية و حرب الملفات
أشارت مجلة جون افريك في مقال لها سنة 2017 بأن رئيس الحكومة يوسف الشاهد يعتمد على شكل جديد من دوائر النفوذ لتحقيق أهدافه السياسية حيث اعتبرت المجلة الفرنسية ان الشاب الذي يعتلي سدة الحكم في القصبة يعتمد على شكل سياسي جديد قائم على دوائر النفوذ المغلقة المتمثلة في حزام سياسي من الحكومة و مجموعة من الجمعيات و رجال الاعمال وهو ما تأكد فعلا مع إعلان تأسيس حركة تحيا تونس التي اعتبرها اغلب المراقبين وريثا شرعيا لحركة نداء تونس .
حرب الملفات …الورقة الرابحة ليوسف الشاهد
بالعودة الى تقنية الفلاش باك فإننا يمكن ان نلاحظ ان تغلغل رئيس الحكومة في مفاصل الدولة يعود الى ماي 2017 في إطار ماعرف وقتها بالحرب على الفساد بإيقاف رجل الأعمال شفيق جراية الممول الاساسي لحركة نداء تونس و الصديق المقرب لحافظ قايد السبسي فالحرب الإنتقائية و التي استهدفت رجال الاعمال المقربين من حزب البحيرة كانت ولاشك ضربة البداية لإنهاك حزب رئيس الجمهورية بتجفيف المنابع المالية وتحريك الملفات القضائية حسب المصالح السياسية ،وهو ما تأكد حسب اغلب المراقبين بإيقاف برهان بسيس المكلف بالشؤون السياسية في حركة نداء تونس في شهر اكتوبر الماضي على خلفية قضية تعود الى سنوات خلت.
وفي سياق متصل نشر الصحفي الفرنسي المثير للجدل نيكولا بو ورئيس تحرير موقع موند أفريك الاسبوع الماضي مقالا تحدث فيه عن صفقة بين يوسف الشاهد ورجل الاعمال المعروف كمال لطيف و تتمثل اهم ملامحها في إنتهاء نداء تونس و صلح مع رئيس الجمهورية مقابل إسقاط التتبعات العدلية في شأن اللطيف حيث اعتبر نيكولا بو ان رئيس الحكومة يتقن بشكل بارع لعبة تحريك الملفات القضائية و هو ما دفع باللطيف الى مغازلته في إطار قاعدة “الربح مقابل الربح “.
وفي نفس الإطار تحدث الباحث السياسي في شؤون الشرق الاوسط بمعهد بروكنغز شاران غريوال في ورقة بحثية على الوضع السياسي في تونس حيث اعتبر غريوال ان تونس تعيش تهديدات حقيقية تتربص بالمسار الديمقراطي عبر صعود رجل قوي الى سدة الحكم بعد الإنتخابات القادمة مع وجود مؤشرات مثيرة للقلق مع زيادة سلطات المؤسسة الامنية و الإستخدام المسيس للملفات القضائية لملاحقة المعارضين و النشطاء .
من جهتها عبرت حركة النهضة عبر قياداتها عن إمتعاضها من توظيف رئيس الحكومة لأجهزة الدولة لغايات حزبية و سياسية خاصة بعد تسريب وثيقة من البنك المركزي الى البنوك تطالب بالتثّبت في الحسابات البنكية لبعض.
قيادات حزب مونبليزير وهو ما يتطابق مع المخاوف التي اعرب عنها القيادي لطفي زيتون حول تزوير محتمل لنتائج الإنتخابات المقبلة مع ظهور مؤشرات لولادة “حزب الدولة “،تلتها تصريحات متوجسة لنائب رئيس حركة النهضة علي العريض و عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس شورى الحزب وهي مخاوف تتقاسمها كل الحساسيات السياسية حيث حذر الامين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي في تصريح صحفي من إستعمال أجهزة الدولة مثل القضاء و الداخلية و الدفاع لتقوية طرف سياسي على آخر وهو ماقد تكون له منزلقات خطيرة على المسار الديمقراطي برمته .
ومن هنا يمكن ان نخلص الى أن التداخل بين الحكومي و الحزبي لا يحتاج الى بحث اركيولوجي لإثباته بل هو واضح للعيان من خلال عديد المعطيات و المؤشرات و على النخبة السياسية الفاعلة ان تسرّع بتحصين المنجز الديمقراطي التونسي بتركيز المحكمة الدستورية قبل الإنتخابات تفاديا لكل محاولة التفاف على الديمقراطية في تونس