جائحة الكورونا وتهاوي سرديّات الليبيراليّة الجديدة والهوويّة

جائحة الكورونا وتهاوي سرديّات الليبيراليّة الجديدة والهوويّة

ما إن بدأت جائحة الكورونا تهدّد الأمن الصحّي للبلدان المتحكّمة في النظام العالمي، حتّى أخذت تتهاوى أهمّ السرديّات المؤسّسة لكلّ ما كان يقدّم على أنّه من الحتميّات التي لا مناص من الخضوع لها، والاستسلام لقوانينها المتحكّمة على كلّ الأصعدة: النظم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والعلاقات الدوليّة والعادات الثقافيّة والدينيّة – بما فيها الطقوس وأشكال التعبّد الجماعيّة التي كانت تقدّم على أنها ممّا لا يمكن للدين أن يقوم بدونها.

وأخذت تتراجع مع تهاوي هذه السرديّات المسلّمات الّتي صاحبت عولمة الليبيراليّة الجديدة وردود الفعل الهوويّة، على ما أدّت إليه تلك العولمة من استفحال لمظاهر الاستغلال الفاحش والاحتكار المقيت للثروات، من طرف أقليّة من المضاربين ومن أرباب المؤسّسات الماليّة الكبرى، على حساب الملايين من المفقّرين والمهمّشين ومن ضحايا قوانين الرأسماليّة المتوحّشة.

فقد جاءت جائحة الكورونا لتكشف – بما لا يمكن إنكاره أو تجاهله – أن عولمة البؤس الناجم عن سيرورات الليبيرالية الجديدة، المفروضة قهرا على كل الدول والبلدان، لا يمكنها أن تؤدّي إلّا إلى عولمة المآسي والأوبئة التي تهدّد الجميع: القويّ والضعيف، الأثرياء والفقراء، الجلّاد والضحيّة، من يحتكرون الثروات وضحايا الاستغلال الفاحش من مفقّرين ومهجَّرين ولاجئين تدفع بهم حروب العولمة إلى البحث عن ملاذ لإنقاذ حياتهم، إلخ.

وأمام التفشّي السريع للجائحة، وتأكّد خطرها على الجميع، دون أيّ تمييز – على أساس الجنس، أو المعتقد، أو لون البشرة، أو الانتماء العرقي، أو الثقافي، أو التوجّه الجنسي، إلخ…- تجلّى خور كل الاستثناءات الماهويّة والهوويّة، وأصبح واضحا أنّ الإنسانيّة لا مناص لها من الاعتراف بوحدة ماهيّتها أمام ما يتهدّدها، وما يمكن أن يكون سبيل خلاصها، فليس بمقدور أيّة جماعة أن تنجو بمعزل عن باقي الإنسانيّة والانغلاق على نفسها أو معاداة الآخرين.

وفي ارتباط بذلك، تهاوى الاعتقاد بإمكانيّة الاستغناء عن الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، وعن واجبها في ضمان المرافق الصحيّة والخدمات الضرورية للحدّ من الفوارق، وتحقيق حد أدنى من المساواة. وفي هذا الإطار، جاء خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون، بعد إمعانه المتعنّت في السياسات الليبيراليّة الجديدة، على غرار بل وأكثر من سابقيه منذ عقود، ليقرّ بفشل هذه السياسات وللاعتراف بضرورة دولة الرفاه، وما تؤمّنه من تضامنات وخدمات لا يمكن لأيّ مجتمع الاستغناء عنها. فكان خطابه بمثابة التراجع المكره عما سبق الترويج له من سرديّات الاقتصاد الرأسمالي المقدّمة على أنّها حتميّات لا مناص منها. ولئن لم تبلغ تصريحات المسؤولين في باقي الدول ما ذهب إليه ماكرون ورئيس حكومته ووزيره للاقتصاد من اعتراف بأهمّية الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة – إلى حدّ القول بإمكانيّة تأميم المؤسّسات الحيويّة، إن اقتضى الأمر ذلك، على غرار ما وقع أثناء وبعد الحرب العالميّة الثانية -، فإنّ كلّ الدول الرأسمالية، بما فيها الولايات المتّحدة الأمريكيّة والمملكة البريطانيّة المتّحدة، فضلا عن إيطاليا وإسبانيا، اضطرّت إلى اتّخاذ إجراءات تتناقض مع التوجّهات الليبيراليّة التي كانت تقدّم على أنّها ممّا لا يمكن للاقتصاد وللعلاقات الدوليّة أن تقوم بدونه.

فأصبح بالإمكان إيقاف المصانع والإنتاج، والقبول بتراجع النموّ وبكلّ ما كان يعتبر من المستحيلات، رغم صفارات الإنذار المنبّهة للانعكاسات الخطيرة للسياسات المتّبعة على المناخ والبيئة، وعلى الأمن الاجتماعي وعلى حقوق الأجيال القادمة. فأصبح بين عشيّة وضحاها بإمكان الدول التخلّي عن الوصفات التي يفرضها خبراء المؤسّسات الماليّة الدوليّة والإقليميّة والمحليّة، لتسترجع قدرتها على الفعل وعلى توجيه الاقتصاد ونجدة ضحايا الأوبئة والحروب والتهميش الاجتماعي، وعلى توفير الخدمات الضروريّة للحدّ من تداعيات هذه الجائحة.

وعلى الرغم من أنّ الصين لم تغيّر شيئا من طبيعة نظامها السياسيّ البعيد عن الديمقراطيّة وعن احترام الحريّات الأساسيّة؛ فقد كان تعاملها مع الأزمة الناتجة عن جائحة الكورونا – سواء داخل أراضيها أو على صعيد العلاقات الدوليّة – محلّ تنويه وإعجاب حتى لدى ألدّ خصومها: فلم تتردّد الدولة في فرض الحجر الصحّي بسرعة، ووفّرت الأقنعة والأدوية والعلاج مجانا، خلافا لما وقع في البلدان ذات النظم الليبيراليّة، حيث عجزت الدولة على فرض الحجر وعلى منع المضاربين من استغلال المأساة لتحقيق المزيد من الأرباح. وخلافا لما أبدته الولايات المتّحدة الأمريكية والمجموعة الأوروبيّة من أنانيّة وتردّد في تقديم المساعدات لحلفائها وجيرانها ولغيرها من البلدان، قدّمت الصين المساعدات لإيطاليا ولبلدان أوروبا الوسطى ولتونس وللعديد من البلدان الإفريقية، بل وحتّى لفرنسا التي أرسلت مساعدتها للصين في بداية الأزمة. وقد كانت ردود فعل الولايات المتّحدة على لسان رئيسها قمّة في الأنانيّة، وكشفت القناع عن الوجه البشع للسياسات الليبيراليّة والمحافظة، حيث لم يتردّد ترومب عن التصريح بأن البحث عن دواء لمعالجة فيروس كورونا سوف يكون لصالح الأمريكيّين وحدهم، ولم يتورّع عن محاولة استمالة الباحثين في الدول الأخرى، بما فيها أقرب حلفاء الولايات المتّحدة، لجلبهم إلى المخابر الأمريكية، مثيرا بذلك استنكار رئيسة وزراء ألمانيا. ورأى بذلك العالم الفرق بين موقف الصين، على الرغم من أنّها ليست دولة ديمقراطيّة ولاتحترم حقوق الإنسان، وموقف الولايات المتّحدة التي تدّعي احترام هذه الحقوق وتقدّم على أنّها نموذج للديمقراطية.

ولئن لم تبلغ الدول الأوروبيّة ما أبدته الولايات المتّحدة من صلف في الإفصاح عن التوجّهات الأنانيّة لليبيراليّة الجديدة التي تحكم سياساتها منذ ثمانيّات القرن العشرين، فإنّ هذه الدول بيّنت جميعا حدود التضامن فيما بينها، فضلا عن التضامن مع باقي الدول، وافتضح عجزها عن مواجهة الأزمة الناجمة عن هذه الجائحة الكونيّة بفعل تراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، وبفعل استسلامها، منذ عقود، إلى قوانين الليبيراليّة الجديدة التي لا مكان فيها لمفاهيم التضامن والعدالة والمساواة.

وهكذا بدت الديمقراطيّة، وكأنها مرادف للعجز على فرض الانضباط الذي تقتضيه متطلّبات الحدّ من الجائحة والقضاء عليها، وكأنّ الحريّة تعني الانفلات ممّا يتطلّبه الحجر من حدّ ضروري لحريّة التنقل وللسلوكيات التي تهدّد الأمن الصحّي العام، وذلك خلافا لما أظهرته التجربة الصينية من قدرة الدولة، وإن كانت غير ديمقراطيّة، على فرض الانضباط وتقديم المساعدات لمواطنيها ولغيرها من الدول.

وهذا التناقض بين ما أبدته النظم الديمقراطيّة من تردّد وتوان في فرض الإجراءات الضرورية لمواجهة الأزمة، وما استطاعت الصين القيام به، من شأنه أن يدفع إلى الشك في جدوى الديمقراطيّة، والحنين إلى النظم الاستبداديّة قديمها وحديثها، وذلك ما يجب الحذر منه. فما يضعف الديمقراطيّة هو غياب بعدها الاجتماعي الذي يفقد الدولة قدرتها على كسب الثقة في سياساتها، خصوصا لدى ضحايا التوجّهات الليبيراليّة. ومن هنا لابد من إعادة الاعتبار للدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة الديمقراطيّة، حتى تكتسب الشرعيّة التي تخوّلها مطالبة مواطنيها باحترام قوانينها وإجراءاتها، مقابل ما توفّره لهم من خدمات وتضامنات، لابدّ منها لتماسك المجتمع.

ومن المسلّمات الّتي أسقطتها جائحة الكورونا تلك التي تتعلّق بالشعائر الدينيّة وأشكال التعبّد الجماعيّة: فالفاتيكان أغلق أبوابه والكنائس ألغت كل الطقوس بما فيها ما يتعلّق بدفن الموتى، وتمّ منع الحج والعمرة وصلوات الجماعة والجمعة، بعد أن كان القائمون على المؤسسات الدينية وتجار الدين يواجهون بالتكفير كل من يدعو إلى مثل هذا المنع لأسباب لا تقلّ خطرا عن جائحة الكورونا. وهكذا تذكّر حرّاس المنظومات العقائديّة لكلّ الأديان، أن لا شيء يمكن أن يتعارض مع ما يقتضيه ضمان سلامة الإنسان وإنقاذ حياته، بما في ذلك ما دأبوا على اعتباره من أقدس المقدّسات، وممّا لا قيام للدّين بدونه.

تلك هي بعض دروس الأزمة الناتجة عن جائحة كورونا. فهل سيعتبر العالم من هذه الدروس؟ وهل ستطوى بعدها سرديّات الليبيراليّة الجديدة للبحث عن أشكال أرقى من التضامنات ومن التعاون بين الشعوب؟ وهل سننهض للحدّ من أشكال الاستغلال والتمييز والظلم والتفاوت الفاحش بين الجهات والفئات، وبين الشعوب والبلدان، لصالح أقليّة تحتكر الثروات البشريّة؟ أم هل إنّنا سنعود للاستسلام من جديد إلى قوانين الاقتصاد الرأسمالي وقانون السوق المرادف لقانون الغاب؟ وهل سنبحث عن خلاصنا الكوني في تضامنات تبعدنا عن الانغلاق على مختلف الهويات المتنافرة إلى حد التناحر؟ هل سنعي بأنّه لا خلاص للبشريّة، إلا باعتبار الإنسان غاية كل شيء ومقياسه؟ إن الجواب عن هذه التساؤلات رهين بقدرة الشعوب والقوى المناهضة لكل أشكال الاضطهاد والاستغلال على التوحّد للتصدي للسياسات الليبيرالية، ولمختلف تعبيرات الثورة المحافظة الداعية للانغلاق على الهويّات المتنافرة إلى حدّ التناحر.

Exit mobile version