المناظرة.. فن إخراج الخصم من اللعبة
بقلم سفيان فرحات
يلاحظ متابع المناظرة الرئاسية أن أداء قيس سعيد كان هجومياً أكثر من نبيل القروي، وهو ما يأتي على عكس التوقعات فشخصية القروي، بدربته داخل سوق الأعمال وتعوّده على معارك الميديا، تجعله مؤهلاً أكثر من الأستاذ الجامعي لكسب هذا التمرين، غير أن الأمور جرت على عكس ذلك. لم يكن ذلك محض صدفة، أو بسبب اهتزاز مردود القروي وارتباكه، بل تكتيكاً يحسب لقيس سعيّد، ويبيّن أن الرجل ليس كما يدعي البعض (ومنهم مناسفه في آخر تدخّل) لقمة سائغة في مناورات السياسة.
حمل كلّ ردّ قدّمه قيس سعيّد طعنة لخصمه لكنه فعل ذلك بأسلوب راق ومتخلّق، كان “الأستاذ” يصوّب نيرانه من منطقة يعرف الفهم البسيط للقروي لا يطالها، وبذلك ضمِن أن تصل الفكرة للناس دون خصمه، ولبذلك يأمن عدم ردّه ويدرأ عن نفسه هجماته، وحتى في حال ما تفاعل القروي – كما حدث أكثر من مرّة – بدا كمن يتفّه مسألة كان يشرحها سعيّد بمفاهيمها المناسبة وبعض المحسنات الخطابية.
1 – كانت أولى الضربات هدية من القروي لمنافسه، حين ذكر أن من بين مقترحاته لكشف المتورّطين في الاغتيالات السياسية هو بعث محكمة خصوصية، وحين استلم سعيّد الكلمة لم يفوّت الفرصة كي يعطي القروي درساً قانونياً باستحالة إنشاء هكذا محكمة بنص الدستور الجديد، ذلك الذي مدحه القروي مرّات ومرات ظناً بأنه يهاجم سعيّد، غير أن الأخير أثبت له أنه يتحرّك في منطقته أصلاً، فذكّره بأن الدساتير القديمة جيّدة دون أن تمنع الطغيان. وفي كل ذلك سعيّد يلقّنه درساً في صلب المناظرة، يتعلّق بفهم صلاحيات الرئيس، والتي لا تحتاج سوى إلى قراءة للنص.
2 – سُئل قيس عن الفساد فقال: “أَيُرجَى بالجراد صلاحُ أمرٍ*** وقد جُبِلَ الجرادُ على الفسادِ” كان نعتا مباشرا لخصمه، بمفردات مبسّطة لكن من خلال صورة شعرية، فلو قال “كيف يرجى من فاسد مقاومة الفساد؟” لهاج القروي وماج وردّ. وهي استراتيجية أنيقة تذكّرنا بحادثة حمّة الهمامي حين كان مباشرا في إتهام الشاهد بالفساد، فأخذ الآخر حق الردّ مباشرة.وسجّل ضده بعض النقاط.
3- سئل عن التطبيع فأعلن احترازه من استعمال المفردة، وحلّق بها إلى مرتبة أخرى فاستبدلها بتعبير “الخيانة العظمى”. لا شك أنه يعرف بأن الذاكرة القريبة للشعب لا تزال لم تنس خبر خصمه الذي كان منذ أسابيع يتفاوض مع صهيوني من المخابرات الإسرائيلية.
4- أراد القروي تشويهه باتهامه أنه مرشح النهضة، فتجاهل الرد المباشر تماماً ولم يقف في موقف المتهم، بل انطلق من تفصيل في خطاب القروي فكان مدافعاً عن الشباب الذين ساندوه (هم ليسوا كارتونات والت ديزني)، وكأنه هنا قد فصل بين من يقف مدافعاً عن الشعب ومن يتعالى عليه ويسخر منه، وبعد ذلك انطلق في اتجاه آخر بمرجعيات الثقافية العالية، فيلم العصفور ليوسف شاهين وأغنية البداية التي أداها الشيخ إمام، ومنها ربط بمشهد من الثورة التونسية جاعلاً منها مرجعية في خطابه، ولعل في استعارة “العصفور الذي انطلق ولن يرضى مجدداً بالفتات” أبلغ توصيف لمجمل أطروحة حملة القروي، التي قامت على افتراض أن المساعدات هي الكفيلة بحلّ معضلة الفقر في تونس وهو خطاب أشار ضمنياً أنه لا يعدو أن يكون طعماً لإعادة العصفور إلى القفص. كانت تلك أشبه بضربة مقصيّة (مزدوجة) بلغة الكرة القدم.
5- يمكن أن نلاحظ نقطة أخرى تتعلق هذه المرة بخطاب قيس سعيّد كان فوق تناول نبيل القروي، وايضاً فوق أسئلة الصحفيين وتفاعلهما، حين أسقط سؤال الوعد من أساسه بطرفة “وعود الإخشيدي للمتنبي”، وطفق ينظّر لاستبداله بفكرة توفير الآليات للبرامج التي يمتلكها الشعب أصلا. وهي فكرة تمثّل درساً للديمقراطية في العالم ولا تتعلّق بالشأن التونسي لوحده. ضمن لعبة الوعود، وهي أساس المناظرة كما يقترحها البلاتوه التلفزي، كان القروي يتلهّف لقول ما حفظه من جلب استثمارات غوغل ونتلفليكس وأمازون وميكروسوف، بكثير من الزهو، ولا يدري بأن البساط كان مسحوباً من تحت أرجله، فقد ركّز الأستاذ على أن الشعب سئم الوعود وبيّن ما آلت إليه حال بلادنا جرّاء الإطلاق غير المسؤول للوعود الانتخابية.