الغنّوشي قد يخسر معركة لكنّه لا يخسر الحرب..
الغنّوشي قد يخسر معركة لكنّه لا يخسر الحرب..
يتعرّض الغنّوشي إلى سلسلة من المعارك المتتابعة والمتنوّعة من الدّاخل والخارج، يحدث ذلك بأشكال مستمرة ومركّزة، ويندر بل يستحيل أن يوجد في تونس من تعرّض إلى ما تعرّض له الغنّوشي، فالرجل يتمّ استهدافه منذ سبعينات القرن الماضي وبشكل مركّز منذ بداية ثمانينات القرن، وبأشكال موسّعة ورهيبة منذ أفصحت صناديق أكتوبر 2011 عن عواطفها ومالت كلّ الميل تجاه حركته، من هناك تقرّر استهداف الرجل لأنّه يحسن النّجاح وليس لأنّه يحسن الإساءة. ولمّا كانت خطّتهم تقتضي افتعال المعارك ضدّ الغنّوشي لأنّه ينتصر، فقد اصطدمت بعراقيل عدّة واحتاجوا مرارا إلى تحيين خطّتهم بل وأحيانا حذفوها بالكامل واستبدلوها، وما زال بهم الأمر حتى أصبحوا في كلّ صباح بخطّة، ولعلّهم حيّنوها عند الظهيرة، ذلك أنّهم ركّزوا في البداية على قدرة الرجل على الانتصارات، ففاجأهم بقدرته على التعايش والمرونة والحنكة والهدوء والنّفس الطويل.. من هناك احتاجوا إلى الكثير من الخطّط لملاحقة تحركات الرجل واستعمال الأسلحة المناسبة لنوعيّة التميّز التي يبديها الغنّوشي في هذه المرحلة وتلك.
لا يستهدف خصوم الغنّوشي الرجل في معارك تقليديّة، بل يخوضون معارك نادرة وغريبة، فالزّعيم النّهضاوي لا يدخل في معارك نتيجة مناوشات متبادلة ولا نتيجة لصراع هو أحد أطرافه ولا تصفية حسابات سبق إليها فردّ عليه الخصم، كلّ الذين دخلوا مع الغنّوشي في معارك فعلوا ذلك على شرط الإنجاز وليس على شرط الاستفزاز، لم يستفزّهم الغنّوشي ولا هو طلبهم للنزال فاستجابوا أو نال منهم أو غدر أو فجر.. بل لأنّه انتصر أو تفوّق أو تقدّم أو أنجز أو توسّط أو ترفّق أو توافق أو انسحب أو تعفّف أو صمت أو تُوّج أو كُرّم أو كتَب أو استُقبل.. كلّ الذين خاضوا معاركهم ضدّ الغنّوشي لم تكن حججهم أنّه أساء إليهم، بل كلّ حججهم أنّه أنجز حين قعد بهم الإنجاز، فهالهم ذلك ولما بعدت عليهم الشقّة وتيقّنوا أنّ طريق الإنجاز أطول من طريق الحرير وأنّ كبار العزائم ليست بَعْلِيّة ولا تنبت في أرض بور، بل تتطلّب السقوي كم تتطلّب الجهد الكبير والصّبر الجميل، لمّا يئسوا من النّجاح قرّروا معاداة الرجل على شرط النّجاح، كان ذلك قرارهم، أمّا تنزيله فلا تعوزهم الحجج طالما مردوا على الكذب واحترفوا التلفيق، عاشوا به وله.
لو قمنا بتفكيك الخارطة الجينيّة لعلاقات الغنّوشي وانحيازاته وإنجازاته وخياراته، وفعلنا نفس الشيء لعلاقات وإنجازات خصومه، وبالاستعانة بالموضوعيّة والتجرّد، حينها وحينها فقط سنكتشف أنّ خصوم الغنّوشي ينقسمون إلى قسمين، قسم من الاستئصاليين الذي يعادونه لأنّه أحد الأركان الأساسيّة للانتقال الديمقراطي وأنّهم ينتمون إلى معسكر يكره التجربة التونسيّة في بعدها التشاركي التعايشي الديمقراطي المؤسّساتي الإنساني، أمّا القسم الآخر فهو أقرب إلى الببغاوات الذين يردّدون ما لا يفقهون، أولئك الذين أصرّوا على تجميد أمخاخ رؤوسهم وحرّكوا فقط لحم رؤوسهم لقراءة الوشايات والتهم وأطنان التشويه التي تلاحق الرجل منذ نصف قرن، ولو نفضوا بعض الكسل وحرّكوا عشر أمخاخهم لأدركوا أنّ من يلقّنونهم أضحوكة وأنّهم أضحوكة الأضحوكة.
تؤكّد الخارطة الجينيّة لخصوم الغنّوشي أو لنقل 95% من خصوم الغنّوشي، أنّهم مع الثّورة المضادّة ضدّ الثّورة التونسيّة والثّورات العربيّة، وأنّهم مع كلّ الدّول التي تحارب ثورا ت الرّبيع العربي وضدّ كلّ الدّول التي تساعد ثورات الرّبيع العربي، وأنّهم مع كلّ وسائل الإعلام التي تنهش ثورات الرّبيع العربي وتمدح وتروّج لسدنة الثّورات المضادّة، وأنّهم ضدّ كلّ ما يثمّن الهويّة ويعلي من شأن ثوابت الأمّة، ومع كلّ ما يستهتر بالثوابت ويطعن فيها ويسعى إلى صنصرتها، وأنّهم مع كلّ من يسخر من محاسن تقاليدنا وعاداتنا، وضدّ كلّ من يسعى إلى تثمين مخزونها التقليدي والارتقاء به، وأنّهم ضدّ الفطرة ومع الشذوذ وضدّ الأصالة ومع التغريب، وضدّ الأصيل ومع الدّخيل، وضدّ حقوق الإنسان إذا تعلّق الأمر بالبناء الأخلاقي ومع حقوق الإنسان إذا تعلّق الأمر بالانهيار الأخلاقي، إنّهم مع إشاعة الشّراب “الخمر” ومع المجاهرة بالإفطار في رمضان ومع حذف ما لا يروق لهم من سور وآيات القرآن ومع رعاية الدّولة لزواج المثليّين.. وأنّ جلّهم أو كلّهم ينحازون إلى مقولة أنّها برويطة وليست عربة وأنّها عبريّة وليست عربيّة، ويتمنونها عسكريّة ويكرهونها مدنيّة… ولو أنّ فريقا من العلماء عرضوا هذه المعطيات التفصيليّة على قرد الشمبانزي لفصل في الأمر وتوصّل إلى حقيقة الصّورة دون الحاجة لعرض المعطيات على ذاكرته الفوتوغرافيّة.
رغم كلّ تلك الهجمات والمعارك المفتعلة والهرسلة والتكتّل، ورغم أنّ خصوم الغنّوشي وعلى غرار ما يحدث هذه الأيام يعتمدون في هجماتهم على تكتيكات الكلاب الإفريقيّة أو الذّئاب المزخّرفة التي تستعمل خططا معقّدة جدا للإطاحة بفرائسها، وهي الأنجع على الإطلاق حيث تُسقط 80% من طرائدها فيما تُسقط الأسود 30% فقط، رغم كلّ ذلك فإنّه بإمكان خصوم الغنّوشي الانتصار في بعض المعارك لكنّه من المستحيل أن ينتصروا في الحرب! ببساطة لأنّ الوقت فات فالمراكمة انطلقت منذ نصف قرن! والحرب لا شك تعتمد المراكمة والإعداد من بعيد، وحين يشارف الرجل ويحضر العدّاد وتنطق الأرقام، يكون الغنّوشي قد خسر بعض المعارك وكسب الحرب، ستكون الجولات التي ربحها أكبر وأثمن وأرقى بكثير من تلك التي خسرها، ثمّ إنّ خصومه لن يجنوا ثمار الجولات التي خسرها زعيم النّهضة، لأنّها لم تكن بعقليّة ربح الخصم وإنّما أداروها بعقليّة تدمير الخصم، في المحصّلة سيكون حصالة جرابهم 20% من جولات تدمير، وسيكون في جرابه 80% من جولات ربح.. وأبدا .. ولا.. ولم.. ولن يستوي العمـــــــــــــــــــــــــار و الدّمـار! ولا الشــــــــّرف و العـار ولا اللّيل والنّهـــــــــار… لا ولن تستوي الجنّــــــــــــــــة والنّـــار!.
عن نصرالدّين السويلمي