أبو يعرب المرزوقي : تونس تعيش الانقلاب الأخير مع قيس سعيّد
ما نشاهده من تفتت لنسيج تونس السياسي والثقافي يبدو ظاهرة جديدة لكأنها من نتائج الثورة. فالكثير يتصورها حصلت خلال العقد الذي تلاها وليس لها جذور سابقة دامت قرنا كاملا.
واعتبارها من نتائج الثورة ليس إلا من أوهام من يحملونها مسؤولية وجود الظاهرة في حين أن دورها اقتصر على أظهار آثارها العميقة وجعلها علنية بفضل ما وفرته من حرية التعبير عنها.
أريد أن أستعرض بسرعة مراحل تكونها وطابعها الانقلابي الذي مر بخمس مراحل قد أعود إليها لاحقا الواحدة بعد الأخرى بدأ بنشأتها في انفصال ما يسمى بشباب الحزب الدستوري الحر عن الثعالبي مؤسس حركة التحرر الوطنية.
وختما بآخر مراحلها التي يمثلها الانقلاب الجاري حاليا والذي أنسبه إلى مشروع الرئيس سعيد. وهو انقلاب يمكن اعتباره بداية فقدان إرادة التحرر في الجماعة الوطنية التي تفتت وفقدت الوعي باللحمة الوطنية التي هي ثقافية وروحية بالاساس.
فتونس تعيش اليوم ما يمكن وصفه بصراع الحضارات الداخلي. واعتقد أن نفس الداء يعم المغرب الكبير ومثله بلاد الخليج بعد أن وصل إلى الحكم فيها دمى إيران وإسرائيل ولم يبق فيها أي رادع لهذه الحرب الأهلية التي هي صراع حضارات داخلي.
ما يجري في تونس -وهو موضوعي- ليس هو إلا محاولة لتأسيس التبعية المزدوجة الإيرانية الفرنسية من خلال لبننة تونس. وهي قد بدأت بالانقلاب الحالي على دستور الجمهورية الثانية الذي صاغته الثورة بعد أول انتخابات حرة عرفتها تونس.
ويمكن أن أصنف المراحل الانقلابية بالصورة التالية التي لا أعتقد أحدا يمكن أن يجادل فيها لأنها تمثل معالم طريق بينة وقابلة للوصف الدقيق لأنها تشبه انقلابات متوالية كل واحد منها يعد للذي يليه.
فلكأن الأمر فعلا عفويا بل هو محرك بخطة استراتيجية يديرها المستعمر وعملائه الذي يختارهم لتمرير الاستعمار غير المباشر بكامل الحرفية والاقتدار:
1-انقلاب بورقيبة على الثعالبي بعد أن بدأت فرنسا تكون حزبها -من خريجي التحديث بوجهيه -البعثات والمدارس الحديثة مثل الصادقية-والهدف هو تجذير الحماية لتصبح ثقافية وفكرية بعد أن كانت الحماية سياسية فحسب.
ذلك أن الاستراتيجيين الفرنسيين اكتشفوا ان الثقافة الأسلامية صمدت رغم كل محاولات محوها في الجزائر وتونس خاصة لأن المغرب تأخر استعماره المباشر إلى ما قبل الحرب العالمية الاولى بقليل.
2-فبدأت الحرب على الحصانة الروحية بانقلاب بورقيبة الاول ولم تبرز دلالتها إلا في انقلابه الثاني على نظام البايات بعد حسم الخلاف مع صالح بن يوسف والشروع في تحقيق برنامج الحرب على الحصانة الروحية.
3-انقلاب ابن علي على بورقيبة بعد هزيمة محاولات الانتقال الديموقراطي التي سعى إليها بعض المناضلين الذين ضاقوا ذرعا بمآل نظام بورقيبة وخاصة بعد فشل التجربة التعاضدية وتآكل الشرعية التاريخية لنظام الحزب الاشتراكي الدستوري.
4-انقلاب المافية واليسار والاتحاد على ابن علي الذي حاول تجنب ما يمثلونه من خطر عليه وعلى ابنه وأسرته التي سيطرت على كل شيء وتوهم إمكانية توظيف الصلح مع الإسلاميين .
5-فشل التوافق بين النداء والنهضة ومآل ذلك إلى انقلاب قيس سعيد على الجمهورية الثانية بعد أن بدأت فرنسا كالعادة تبحث عن تدعيم عملائها بنفس ما فعلته في الحروب الصليبية: الحلف مع الباطنية والدولة الشيعية في الأقليم.
والثابت في كل هذه التحولات عاملان:
1-كاريكاتور التحديث السطحي الذي اكتفى بالتقليد البليد والعنيف بالتعامل مع الشعوب تعامل الاستعمار الغربي مع الأنديجان دون فهم شروط الوضعية الغربية التي أخذت بالمقلوب منذ غزو نابليون لمصر والنسخة الباهتة من نابليون في مشروع محمد علي.
وهو عامل اعتمد على نقل الفكر الفرنسي اليعقوبي بداية وفاشية ما بين الحربين غاية كما هو بين في فاشية تركيا الكمالية التي حاكتها أقطار الأقليم بعد تطبيق خطة سايكس بيكو الأولى ووعد بلفور.
2-كاريكاتور التأصيل السطحي الذي اكتفى بنفس التقليد البليد والعنيف بالتعامل مع الشعوب بروح القرون الوسطى واعتبار التأصيل محاكاة قشور العبادات والعودة إلى الماضي دون فهم حاجات العصر.
وهو عامل اعتمد على نقل الفكر الوهابي الذي هو تأسيس لما يشبه القسمة بين الكنيسة والقبيلة نظاما يزعم إسلاميا والنسخة الباهتة من الدولة الإسلامية بعدما انحطت فاصبحت حالة الطوارئ الاستثنائية التي حكم بها معاوية حالة طبيعية.
فتم الغاء ثورتي الإسلام الذي أنهى فكرة الوساطة الكنسية بين المؤمن وربه والوصاية السياسية بين المؤمن وشأنه كما حددتهما الآية 38 من الشورى: نظام جمهوري (الحكم أمر الجماعة) ديموقراطي (بالشورى بينهم).
وبذلك نحن الآن نمر إلى الوضعية التي هي النكوص المطلق إلى وصاية الكنسية الصريحة بالمعنى الشيعي ووصاية بالحق الإلهي وهما يعبران عن انتقال من قسمة السلطة بين المرجعيات الدينية والمافيات المليشياوية التي كانت مجرد أمر واقع في الوهابية فأصبحت أمرا واجبا في الخمينية.
وهذا هو الانقلاب الأخير الذي نراه جاريا في تونس وفي كل الدول العربية التي غزتها إيران أي العراق وسوريا ولبنان واليمن. وإذا بقيت النخبة السياسية التونسية تخرف حول تقاسم مقاعد المجلس والحكومة فسيكون المآل من جنس ما نراه في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
مسرحيات السيطرة على العباد بالفساد والاستبداد بين مافيات توظيف الدين ومافيات توظيف اجهزة الدولة التي تتحول إلى نظام مليشياوي فيتقاسمون نهب الأرزاق وسلب الأعراض في دولة المخدرات وتجارة العاهرات كالحال في جل البلاد التي صارت أذيالا لإيران وإسرائيل .