هكذا ستنتهي ظاهرة قيس سعيد..
في البدء، لا ليس قيس بالرجل بالخبيث ولكن لديه قابليّة الخبث، وليس بالكذّاب ولكن لديه قابليّة الكذب، وليس بالرهينة ولكن لديه قابليّة الارتهان، وليس بالمخادع ولكن لديه قابليّة الخداع، وليس بالمنخدع ولكن لديه قابلية الانخداع.. وليس بالسياسي وليست لديه أبدا قابليّة التسيّس.. هو رجل لديه قابليّة لكل السلوكات المشينة من أجل إرضاء الخصائص المتصلّبة المتكلّسة التي طبعت سلوكه، لعلّ أبرزها التذاكي الغبي، والنرجسيّة الصاخبة المغلّفة بقشرة رهيفة جدّا من التواضع تلك التي انطلت عليه قبل أن تنطلي على محيطه.. هو شخصيّة اقتاتت على الانزواء والنطواء وأكبر شريان يغذّي صعود الظاهرة القيسيّة هو الغموض واللاّموقف والتفرّد، يمتهن بشغف محاولة تسفيه الموجود لصالح المفقود ونسف الحقيقي لصالح الخيالي.. قام بأكبر عمليّة فرار حين لجأ إلى الطلاسم السياسيّة ولم يواجه الواقع، ثمّ إنّه خان ثورة تونس حين لم ينخرط في تبسيط متطلّبات مراحل الانتقال الديمقراطي وتكاليفه ومتاعبه، وقدّم تلك المراحل على أنّها جنّة سرقتها القوى التي أشرفت على عقد من المخاض الشّاق، ثمّ فرّ تماما من المقاربات والمقارنات بين ثورة تونسية تنجح في انتقالها السياسي وثورات عربية تردّت بلدانها إلى وضعيّة أشنع ممّا كانت عليه قبل انطلاقها، مصر نموذجها.
بنى قيس رصيده على جريمة في حقّ التشخيص النزيه، وخدع كتل الإحباط حين توههُم بعيدا عن التعريف العلمي الواقعي المجرّب لكلّ مشاريع الانتقال الديمقراطي، وبالغ في تخميرهم حين أقنعهم بأنّ الحلّ ليس أبسط منهم! فقط الطبقة السياسيّة المجرمة المنافقة العميلة لا ترغب في النجاح ولا تريد تسجيل اسمها في التاريخ ولا تبحث عن النمو والنهوض حتى ترضي شعبها، وأنّه هو وحده من تفطّن إلى الطريق المؤدية نحو الرخاء، وهو يحارب الآن ليصل.. ولن يصل..! لأنّ الشعوب تنهض نتيجة الجهد الجمعي الواعي المتبصر الهادئ وليس نتيجة النزوات السياسيّة المبتورة المفصولة عن سياقات المراكمة الانسانية عبر قرون.
يُعذر في قيس سعيّد كلّ الشباب النّاقم على الوضع وأغلبهم صادقون، يبحثون عن الخلاص من واقع اجتماعي اقتصادي متعثّر ولا يمكنهم ولا يسمح لهم موقع التشوّف والتطلّع والشدّ والتشنّج والخيبة والإحباط.. لا ستمح لهم بالتركيز مع الثورة السياسيّة وثمارها، ربّما لا قدّر الله في صورة النكبة والتردّي كما المستنقع المصري أو اليمني أو السوري.. حينها ستخيم نعمة الانتقال السياسي ومزايا الحريّة، لأنّه لا يعرف قيمة الشيء إلا عند فقدانه. يعذر الشباب وكتل الإحباط في قيس سعيّد حين انخدعوا له أو الأقرب خدعوا فيه، لكن أبدا لا تعذر القوى المتمرّسة سياسيّا والشخصيّات الماكرة التي تدرك أنّ في جراب الرجل سلسلة من الأقاويل سيقولها وسلسلة من النشاز والأفعال الغريبة سيقترفها، ثمّ ستذهب السكرة وتحضر الفكرة ويفرغ جراب سعيّد وتنتهي شحنته وتكسد بضاعته لمّا يشرع في اجترار أقواله وأفعاله الركيكة لمرّات عديدة فتصبح مملّة، حينها سينفضّ الجمع من حوله وينصرف للبحث عن حالة أخرى تمتصّ غضبه وتهدئ وتسكّن إحباطه إلى حين. ويظلّ سعيّد لشهر وشهرين يردّد أسطوانته المفضلة، التاريخ.. وسوف.. وقد عطّلوني.. ومنافقون.. وأعرفهم…. ثمّ يبتلعه الأرشيف.. سيظلّ قدّامنا المجرمون الذي تعرّفوا إلى طبيعته وتيقّنوا أنّه “بطّاريّة” برّاقة بصدد استهلاك شحنتها، لذلك هم يسارعون إليه لاستعماله قبل أن ينتهي.. قبل أن يتمّ..، منهم الخونة الذي يستعملونه للانتقام من خيباتهم ومنهم المكلّفون بمهمّة تدمير التجربة التونسيّة لصالح أجندات داخلية وأكثر منها خارجيّة… وسوف يفشلون كما فشل غيرهم.. وسوف يختفون كما اختفى غيرهم.. وسوف يلاحق بعضهم الخزي.. سيقبعون هناك يكتنفهم غبار الذلّ، يستذكرون بحرقة كيف سقطوا من حجر العزّ في المستنقع الخزّ…..
نصرالدّين السويلمي