زيارة العمل والصداقة التي أداها الرئيس قيس سعيد إلى العاصمة باريس بدعوة من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون لم تكن زيارة موفقة ولا مثمرة على أكثر من صعيد ومجال وبات أن سلبياتها أكثر من ايجابياتها ويبدو أنها سوف تخلف تداعيات كبيرة وتترك ضجيجا كثيرا.
فإذا تركنا جانبا قول من اعتبر أنها كانت زيارة على عجل وتزامنت مع التطورات الأخيرة التي تعرفتها الشقيقة ليبيا ما يجعلها زيارة ملغمة وموجهة من الجانب الفرنسي وجاءت أياما قليلة بعد إسقاط البرلمان التونسي للائحة ائتلاف الكرامة الرامية إلى مطالبة فرنسا الاستعمارية بالاعتذار عن كل جرائمها التي ارتكبتها بحق الشعب التونسي وما قامت به من انتهاكات وافتكاك للأراضي من أصحابها وقتل متواصل دام لأكثر من السبعين سنة ، فإن محصل هذا الزيارة ما تكرمت به فرنسا علي تونس بمنحها قرضا قيمته 350 مليون أورو مؤجل الدفع إلى سنة 2021 ليضاف إلى القائمة الطويلة من الديون التي تتعب المالية العمومية وجعلت البلاد مرتهنة إلى الأجنبي ما أفقدها استقلالية قرارها السياسي والسيادي فكل ما قدرنا عليه في هذه الزيارة غير المفهوم توقيتها أنها جنت علينا دينا جديدا هو كل ما قدرت عليه الدبلوماسية التونسية الفاعلة والذكية وهو دين مؤجل خلاصه لسنة واحدة في حين كان المرتقب والمنتظر أن تجني البلاد من أول زيارة يؤديها قيس سعيد إلى خارج الوطن و أول زيارة له إلى فرنسا المزيد من الدعم المالي والبلاد على حافة الإفلاس غير المعلن وأن تحول ديوننا إلى استثمارات وفي أسوأ الحالات أن تعيد جدولة ديوننا معها أو أن تلغي جانبا منها خاصة وأن فرنسا هي أول شريك اقتصادي لتونس في حركة سياسية تحفظها تونس لهذا البلد الذي استعمرنا واستفاد من ثرواتنا ونهب خيراتنا لعقود طويلة ولا يزال إلى اليوم يفرض علينا وصايته غير المعلنة وبشكل مستمر في عملية استعمار متواصل غير أنه بشكل مختلف.
ما جنينا من هذه الزيارة إلى جانب هذا الدين الجديد خطاب سياسي محير يثير الكثير من الجدل وعدم الرضا فتح به رئيس الدولة ملفات ملغمة ما كان لها أن تفتح خارج الحدود مجالها ومحلها داخل أرض الوطن لارتباطها بكرامة الشعب وعزته وتاريخه وهويته وذاكرته.. ما حصل في جوانب من الخطاب السياسي للرئيس قيس سعيد هو صدمة كبرى خلفت ذهولا عند الشعب كادت أن تقصم ظهره بعد الذي سمعه على لسان رئيسه من قوله أن الشعب التونسي لم يكن محتلا من طرف فرنسا وأن البلاد طيلة سبعين سنة من تاريخها المعاصر لما كانت فرنسا تصول وتجول في بلادنا لم تكن محتلة وأن كل الحكاية أننا كنا تحت وضع الحماية وهي حالة حسب سيد الرئيس مختلفة عن وضع الاستعمار وبالتالي فإن المطالبة من فرنسا أن تعتذر عن كل جرائمها عن حقبتها الاستعمارية في تونس هو قول مغلوط ومطلب في غير محله.
الصدمة والذهول والخيبة أن نسمع من يقول لنا أن فرنسا لم تأت لاحتلالنا واستعمارنا وإنما جاءت لحمايتنا وتأهيلنا وتعليمنا الحضارة والمدنية لأننا شعب يحتاج إلى من يعلمه كيف يعيش وكيف يدير شؤون حياته .. والصدمة والذهول والخيبة أن نسمع كلاما لا يعتبر أن الحماية هي مرحله تمهيدية للاستعمار ومقدمة للاحتلال فما قامت به فرنسا في تونس هو نفس ما قامت به في الجزائر وفي الكثير من مستعمراتها في إفريقيا غير أن الأدوات الاستعمارية هي التي تختلف فمرة يكون احتلالا مباشرا وأخرى استعمارا بانتهاج المرحلية ففرنسا دخلت البلاد تحت ذريعة الحماية غير أنها احتلت الأرض وافتكت الأراضي الزراعية الخصبة ووضعت عليها معمرين فرنسيين يديرونها ثم احتلت الإدارة وسيطرت على المرفق العام من محاكم ودواوين وإدارات وتعليم وضعت عليها فرنسيين ثم سيطرت على البلاد بالكامل حتى ظهرت حركة وطنية بداية من عشرينات القرن الماضية وتطورت في الثلاثينات طالبت بالاستقلال ورحيل المستعمر عن أراضينا وبدستور وبرلمان تونسيين ومع الأربعينات مع تكوين الاتحاد العام التونسي للشغل التحمت القيادة العمالية النقابية بالقيادة السياسية الحزبية لتثمر في الخمسينات حركة مقاومة مسلحة للمحتل الفرنسي انتهت بإجبار فرنسا على الإمضاء على وثيقة الاستقلال عن مضض في توجه عالمي يقر للشعوب في تقرير مصيرها وفي قرار أممي لتصفية الدول المستعمرة احتلالها للشعوب المسلوبة حريتها وإرادتها فالقول بأن تونس لم تكن محتلة وإنما كانت تحت الحماية هو قول يتنكر لكل الجهد الذي بذلته أجيال كثيرة من التونسيين في مقاومة المستعمر بداءا من تاريخ قدوم الفرنسيين سنة 1881 وتنكرا لكل التضحيات التي قدمها التونسيون وفدوا بها أرواحهم للبلاد وإنقاصا من جهد المناضلين الذين ناضلوا من أجل تونس حرة و مستقلة .. فإذا لم تكن تونس مستعمرة كما يقول السيد الرئيس فعلام أمضى الوفد التونسي بعد مفاوضات عسيرة قادها الطاهر بن عمار مع رئيس الحكومة الفرنسي الفرنسي سنة 1956 ؟ فإن لم يكن قد أمضى على وثيقة اسمها وثيقة الاستقلال وإنهاء الاحتلال الفرنسي لتونس فعلام أمضى ؟ يبدو أن هناك مشكلة في معرفة التاريخ ومشكلة أخرى في قراءة أحداث تونس قبل الاستقلال ومشكلة في المفاهيم الملتبسة حينما يكون تواجد فرنسا في بلادنا ليس احتلالا وتلك قضية أخرى تحتاج حديثا آخر.
من الإرباكات الأخرى التي خلفها خطاب الرئيس التونسي في فرنسا وهي كثيرة موقفه من النزاع الليبي وأطرافه حيث استمعنا إلى مقاربة محيرة ومقلقة لا تخدم الموقف التونسي من النزاعات الخارجية التي كنا نقول أن موقف تونس بشأنها كان دوما متوازنا ومحايدا و ينأى بالنفس عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى غير أن ما عبر عنه الرئيس قيس سعيد بشأن الوضع في ليبيا جعلنا في ورطة الانتماء إلى المحاور من جديد ورمى بالموقف التونسي في لهيب التأويلات والغموض فاستعمال مقاربة تقوم على فكرة الشرعية والمشروعية لتفسير ما يجري في ليبيا هي مقاربة خطيرة لا تخدم الملف الليبي بل تزيده تعقيدا فقد اعتبرت الكثير من الأطراف الليبية أن حديث قيس سعيد عن انتهاء شرعية حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج المعترف بها دوليا ومطالبته بالحصول على شرعية انتخابية من خلال إجراء انتخابات هو كلام غير مقبول في الداخل الليبي تم فهمه على أنه تدخل في شؤون الغير وينم عن موقف غير محايد ومنحاز إلى أحد طرفي النزاع والحال أن الحكومة الشرعية التي أنهاها الرئيس التونسي هي مؤسسة منبثقة عن اتفاق الصخيرات وحظيت برعاية من الأمم المتحدة التي لم تنه شرعية حكم السراج ولم تقل مثل هذا الكلام الذي يزيد من تأجيج الوضع الداخلي في ليبيا والأخطر من هذا التصريح اعتبار أن الحل للملف الليبيي يكمن في أن تتسلم القبائل الليبية زمام الأمور وأن تتولى وضع دستور للبلاد على شاكلة دستور القبائل الأفغانية في سنة 2002 و هو تصور قال عنه الكثير من العارفين بالملف الليبي أنه غير جدي ويقوم على جهل بالدور التاريخي الذي تلعبه القبيلة في ليبيا وهو دور اجتماعي أكثر منه سياسي والأهم من ذلك أن الدساتير في الدول الديمقراطية تضعها الهيئات المنتخبة من طرف الشعب ولا تضعها القبائل و هو تصور ينم عن عدم دراية دقيقة بالملف الليبي ويقوم على رؤية فيها تدخل في الشأن الداخلي للشعب الليبي بما جعلنا في قلب الصراع وأحد أطرافه بعد أن أولت كل هذه الافكار التي جاءت على لسان قيس سعيد على أنها موقفا منحازا لأحد اطراف المعادلة الليبية تونس في غنى عنها ولا تحتاجها والأخطر فيما جاء في هذا الكلام عن الموقف من الصراع الليبي قول الرئيس بأنه تونس على تنسيق متواصل مع الجزائر في هذا الموقف بما يعني توريط القيادة السياسية الجزائرية في موضوع الشرعية المنتهية لحكومة السراج وتوريطها في موضوع برلمان القبائل هو الحل للازمة الليبية وهو كلام قد يخلق أزمة دبلوماسية بين البلدين خاصة إذا علمنا أن الجزائر تتخذ مسافة من كل أطراف النزاع الليبي.
المهم أن كل ما ربحناه من هذه الزيارة هو دين جديد وقرض آخر يزيد من إرهاق المديونية في الوقت الذي وعد فيه رئيس الحكومة بعدم الاقتراض من الخارج .. ما جنيناه من هذه الزيادة هو خطاب سياسي ملغم بجملة من الملفات والقضايا ما كان لها أن تثار في بلد من استعمرنا وملفات أخرى طرحها بهذه الشاكلة قد زاد من تأزيم الوضع الداخلي والخارجي وعمق أزمة الثقة في القيادة السياسية.