العفاس وجدل الموقف من التراث وقراءة النص الديني
أثارت تصريحات النائب عن ائتلاف الكرامة محمد العفاس التي أدلى بها بمناسبة مناقشة قانون المالية للسنة المقبلة بخصوص المرأة العزباء وقضية الإنجاب خارج إطار الزواج وفي ظل العلاقات غير الشرعية الكثير من اللغط وردود فعل غاضبة في صفوف أتباع الحركة النسوية الذين رأوا فيها دعوات تعود بالمجتمع إلى الوراء وتنتهي إلى تقسيمه إلى شطرين مع ما فيها من إهانة للمرأة التونسية ومكانتها وتهديدا لكل المكاسب التي تحققت لها في ظل دولة الاستقلال.
ورغم أن النخبة الحداثية التي توجه إليها العفاس بخطابه وموقفه من الأمهات العازبات قد شنت عليه حربا إعلامية وسياسية لا من منطلق مناقشة ما قاله ومحاوراته المحاورة المطلوبة في مثل هذه القضايا التي أصبح النظر فيها مختلفا باختلاف المرجعيات الفكرية وزوايا نظر أصحابها، وإنما الذي حصل مع العفاس هو ردود فعل متوترة ومواقف متشنجة رأت فيما قاله النائب تهديما لكل ما بنوه وأسسوا له طيلة سنوات بخصوص العلاقات الجنسية الحرة وحق الفرد في اختيار نوع الأسرة التي يريد والتي من الممكن أن لا تكون خاضعة لفكرة العائلة التقليدية القائمة على جنسين مختلفين واختيار نوع الرابطة الجنسية التي ليست بالضرورة قائمة على زواج شرعي وكذلك اختيار نوع الشريك في هذه العلاقة الذي من الممكن أن يكون من نفس الجنس.
في مقابل هذا الوقف المتشنج القائم على رمي التهم والنعوت في التعاطي مع مواقف العفاس التي تبقى في الأخير خاصة به وتلزمه لوحده وبدل مقارعته وفتح حوار مجتمعي حقيقي حول قضية خطيرة لا أحد ينكر أنها لا تليق بصورة المرأة التي نريدها وهي متعبة ومرهقة للمجتمع وكذلك حول وضعية هؤلاء النسوة اللائي يجدنا أنفسهن في لحظة من الزمن أمهات ولكن من دون زوج ولا قرين وفي كفالتهن رضيع أو طفل يحتاج إلى الكثير من الرعاية والعناية، في مقابل غياب هذا النقاش الذي فوته علينا التيار الحداثي المنتصر إلى الحركة النسوية ظهر بمناسبة هذه التصريحات المثيرة من النائب العفاس نقاش مهم وجدال يستحق أن ننتبه إليه ونحاوره.
مبنى هذا النقاش الفكري هو سؤال فرضه موقف العفاس يقول هل ما زال ممكنا بعد أن حسمنا كل النقاش حول الهوية ومكانة الإسلام في الدستور وفي المجتمع وفي التشريع أن نعود إلى طرح اشكالية التوفيق بين الفصل الأول من الدستور ” الإسلام دينها ” والفصل الثاني ” تونس دولة مدنية ” ؟ وهل من الممكن أن يعيد ما قاله النائب طرح النقاش المعروف حول الموقف من التراث الفقهي والموقف من النص الديني وقضية كيف نفهم هذا التراث وكيف نقرأ النص القرآني؟
نطرح كل هذه الأسئلة في سياق تصريحات البعض بأن موقف محمد العفاس من الأمهات العازبات وخطابه بخصوص وضعية المرأة العزباء والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج يؤكد أن عملية التوفيق بين القديم والجديد لتحقيق الحداثة قد فشلت وأن القراءة التي تحاول المزج بين التراث والتجديد والتي تميل إلى خيار التعايش مع التراث في ظل الحقوق الكونية والمبادئ الانسانية التي اتفقت عليها البشرية وعدتها حقوقا جامعة يخضع لها الجميع بدل التصادم أو التجاهل كل هذا المسار لم يجد نفعا ولم يفد في شيء لتحقيق صورة الدولة العصرية ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن أنصار الإسلام السياسي كما دعاة الحداثة قد فشلوا في صياغة رؤية فكرية لا تعود بنا كليا إلى زمن السلف ومنطق السلف في فهم النص الديني من دون التلفيق وتطويع النصوص الدينية الذي أنتجت لنا مقاربة تأويلية وصفت بالتقدمية لم تقدر أن تصمد طويلا وسرعان ما انهارت أمام كل ردة تعيدنا إلى طرح السؤال حول تطبيق الشريعة وإنكار الحقوق والحريات العالمية الكونية.
إن الخطير في هذا النقاش الفكري حول الموقف من التراث الديني في الخطاب الذي أبداه البعض من النص الديني الذي اعتمد عليه محمد العفاس والذي رأوا فيه عائقا وعبئا نحو تحقيق الدولة المدنية وأن بلوغ الحداثة لا تكون من خلال القراءة التجديدية للنصوص والتي تقوم على القراءة التلفيقية التوفيقية وإنما من خلال خيار القطع التام مع كل القديم وإعلان القطيعة مع كل الموروث الديني.
إن الخطير في هذه الرؤية للتراث الديني في اعتبار النص الديني عبئا معطلا لتنبني منظومة الحقوق الكونية برمها وبكليتها من دون مراجعة لها ولا اختيار لما يتماشى مع خصوصية هويتنا وثقافتنا وما يميزنا عن غيرنا، الخطير في اعتبار النص الديني غير قابل للتعايش مع كل جديد وكل حادث